فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{كَلاَّ} ردع عما كانوا عليه من التطفيف والغفلة عن البعث والحساب {إِنَّ كتاب الفجار لَفِى سجين} إلخ تعليل للردع أو وجوب الارتداع بطريق التحقيق و{كتاب} قيل بمعنى مكتوب أي ما يكتب من أعمال الفجار لفي إلخ وقلي مصدر بمعنى الكتابة وفي الكلام مضاف مقدر أي كتابة عمل الفجار {لَفِى} إلخ والمراد بـ: {الفجار} هنا على ما قال أبو حيان الكفار وعلى ما قال غير واحد ما يعمهم والفسقة فيدخل فيهم المطففون و{سجين} قيل صفة كسكير واختار غير واحد أنه علم لكتاب جامع وهو ديوان الشر دون فيه أعمال الفجرة من الثقلين كما قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سجين كتاب مرقوم} فإن الظاهر أن {كتاب} بدل من {سجين} أو خبر مبتدا محذوف هو ضمير راجع إليه أي هو كتاب وأصله وصف من السجن بفتح السين لقب به الكتاب لأنه سبب الحبس فهو في الأصل فعيل بمعنى فاعل أو لأنه ملقى كما قيل تحت الأرضين في مكان وحش كأنه مسجون فهو بمعنى مفعول ولا يلزم على جعله علماً لما ذكر كون الكتاب ظرفاً للكتاب لما سمعت من تفسير {كتاب الفجار} وعليه يكون الكتاب المذكور ظرفاً للعمل المكتوب فيه أو ظرفاً للكتابة وقيل الكتاب على ظاهره والكلام نظير أن تقول إن كتاب حساب القرية الفلانية في الدستور الفلاني لما يشتمل على حسابها وحساب أمثالها في أن الظرفية فيه من ظرفية الكل للجزء.
وعن الإمام لا استبعاد في أن يوضع أحدهما في الآخر حقيقة أو ينقل ما في أحدهما للآخر وعن أبي على أن قوله تعالى: {كتاب مرقوم} أي موضع كتاب فـ: {كتاب} على ظاهره و{سجين} موضع عنده ويؤيده ما أخرج ابن جرير عن أبي هريرة مرفوعاً أن الفلق جب في جهنم مغطى و{سجين} جب فيها مفتوح وعليه يكون {سجين} لشر موضع في جهنم وجاء ف عدة آثار أنه موضع تحت الأرض السابعة ولا منافاة بين ذلك وبين الخبر المذكور بناء على القول بأن جهنم تحت الأرض وفي (الكشف) لا يبعد أن يكون {سجين} علم الكتاب وعلم الموضع أيضاً جمعاً بين ظاهر الآية وظواهر الأخبار وبعض من ذهب إلى أنه في الآية علم الموضع قال وما أدراك سجين على حذف مضاف أي وما أدراك ما كتاب سجين وقال ابن عطية من قال بذلك فـ: {كتاب} عنده مرفوع على أنه خبر أن والظرف الذي هو {لَفِى سجين} ملغى وتعقب بأن إلغاءه لا يتسنى إلا إذا كان معمولاً للخبر أعني كتاب أو لصفته أعني مرقوم وذلك لا يجوز لأن {كتاب} موصوف فلا يعمل ولأن {مرقوم} الذي هو صفته لا يجوز أن تدخل اللام في معموله ولا يجوز أن يتقدم معموله على الموصوف وفيه نظر.
وقيل {كتاب} خبر ثان لأن وقيل خبر مبتدأ محذوف هو ضمير راجع إلى {كتاب الفجار} ومناط الفائدة الوصف والجملة في البين اعتراضية وكلا القولين خلاف الظاهر وعن عكرمة أن {سجين} عبارة عن الخسارة والهوان كما تقول بلغ فلان الحضيض إذا صار في غاية الخمول والكلام في {وَمَا أَدْرَاكَ} إلخ عليه يعلم مما ذكرنا وهذا خلاف المشهور وزعم بعض اللغويين أن نونه بدل من لام وأصله سجيل فهو كجبرين في جبريل فليش مشتقاً من السجن أصلاً و{مرقوم} من رقم الكتاب إذا أعجمه وبينه لئلا يلغو أي كتاب بين الكتابة أو من رقم الكتاب إذا جعله له رقماً أي علامة أي كتاب معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه وقال ابن عباس والضحاك {مرقوم} مختوم بلغة حمير وذكر بعضهم أنه يقال رقم الكتاب بمعنى ختمه ولم يخصه بلغة دون لغة وفي (البحر) {مرقوم} أي مثبت كالرقم لا يبلى ولا يمحى وهو كما ترى وشاع الرقم في الكتابة قال أبوحيان وهو أصل معناه ومنه قول الشاعر:
سأرقم في الماء القراح إليكم ** على بعدكم إن كان للماء راقم

وأما الرقم المعروف عند أهل الحساب فالظاهر أنه بمعنى العلامة وخص بعلامة العدد فيما بينهم وقوله تعالى: {وَيْلٌ يومئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ} متصل بقوله تعالى: {يوم يقوم الناس لرب العالمين} [المطففين: 6] وما بينهما اعتراض والمراد للمكذبين بذلك اليوم فقوله تعالى: {الذين يُكَذّبُونَ بِيوم الدين} أما مجرور على أنه صفة ذامة للمكذبين أو بدل منه أو مرفوع أو منصوب على الذم وجوز أن يكون صفة كاشفة موضحة وقيل هو صفة مخصصة فارقة على أن المراد المكذبين بالحق والأول أظهر لأن قوله تعالى: {وَمَا يُكَذّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ} إلخ يدل على أن القصد إلى المذمة أي وما يكذب بيوم الدين الأكل متجاوز حدود النظر والاعتبار غال في التقليد حتى جعل قدرة الله تعالى قاصرة عن الإعادة وعلمه سبحانه قاصراً عن معرفة الأجزاء المتفرقة التي لابد في الإعادة منها فعد الإعادة محالة عليه عز وجل {أَثِيمٍ} أي كثير الآثام منهمك في الشهوات المخدجة الفانية بحيث شغلته عما وراءها من اللذات التامة الباقية وحملته على إنكارها.
{إِذَا تتلى عَلَيْهِ ءاياتنا} الناطقة بذلك {قال} من فرط جهله وإعراضه عن الحق الذي لا محيد عنه {أساطير الاولين} أي هي حكايات الأولين يعني هي أباطيل جاء بها الأولون وطال أمد الأخبار بها ولم يظهر صدقها أو أباطيل ألقيت على آبائنا الأولين وكذبوها ولسنا أول مكذب بها حتى يكون التكذيب منا عجلة وخروجاً عن طريق الحزم والاحتياط والأول أظهر والآية قيل نزلت في النضر بن الحرث وعن الكلبي أنها نزلت في الوليد بن المغيرة وأياً ما كان فالكلام على العموم وقرأ أبو حيوة وابن مقسم إذا يتلى بتذكير الفعل وقرئ {إذا تتلى} على الاستفهام الإنكاري.
{كَلاَّ} ردع للمعتدي الأثيم عن ذلك القول الباطل وتكذيب له فيه وقوله عز وجل: {بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} بيان لما أدى بهم إلى التفوه بتلك العظيمة أي ليس في آياتنا ما يصحح أن يقال في شأنها مثل تلك المقالة الباطلة بل ركب قلوبهم وغلب عليها ما استمروا على اكتسابه من الكفر والمعاصي حتى صار كالصدا في المرآة فحال ذلك بينهم وبين معرفة الحق فلذلك قالوا ما قالوا والرين في الأصل الصدأ يقال: {رَانَ} عليه الذنب وغان عليه رينا وغنياً ويقال: {رَانَ} فيه النوم أي رسخ فيه وفي (البحر) أصل الرين الغلبة يقال رانت الخمر على عقل شاربها أي غلبت وران الغشي على عقل المريض أي غلب وقال أبو زيد يقال رين بالرجل يران به ريناً إذا وقع فيما لا يستطيع منه الخروج وأريد به حب المعاصي الراسخ بجامع أنه كالصدا المسود للمرآة والفضة مثلاً المغير عن الحالة الأصلية وأخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم وصححاه والنسائي وابن ماجه وابن حبان وغيرهم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا أذنب ذنباً نكتت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي ذكر الله تعالى في القرآن كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون» وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أنه قال كانوا يرون أن الرين هو الطبع وذكروا له أسباباً وفي حديث أخرجه عبد بن حميد من طريق خليد بن الحكم عن أبي المجبر أنه عليه الصلاة والسلام قال: «أربع خصال مفسدة للقلوب مجاراة الأحمق فإن جاريته كنت مثله وإن سكت عنه سلمت منه وكثرة الذنوب مفسدة للقلوب وقد قال الله تعالى بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون والخلوة بالنساء والاستمتاع بهن والعمل برأيهن ومجالسة الموتى قيل يا رسول الله من هم قال كل غني قد أبطره غناه» وقرئ بإذغام اللام في الراء وقال أبو جعفر بن الباذش أجمهوا يعني القراء على إدغام اللام في الراء إلا ما كان من وقف حفص على بل وقفاً خفيفاً يسيراً لتبيين الإطهار وليس كما قال من الإجماع ففي (اللوامح) عن قالون من جميع طرقه إظهار اللام عند الراء نحو قوله تعالى: {بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ} [النساء: 158] {بل ربكم} [الأنبياء: 56] وفي كتاب ابن عطية وقرأ نافع {بل ران} غير مدغم وفيه أيضاً وقرأ نافع أيضاً بالإذغام والإمالة وقال سيبويه في اللام مع الراء نحو أشغل رحمه البيان والإدغام حسنان وقال أيضاً فإذا كانت يعني اللام غير لام التعريف نحو لام هل وبل فإن الإدغام أحسن فإن لم تدغم فهي لغة لأهل الحجاز وهي عربية جائزة وفي (الكشاف) قرئ بادغام اللام في الراء وبالإظهار والإدغام أجود وأميلت الألف وفحمت فليحفظ.
{كَلاَّ} ردع وزجر عن الكسب الرائن أو بمعنى حقًّا {أَنَّهُمْ} أي هؤلاء المكذبين {عَن رَّبّهِمْ يومئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} لا يرونه سبحانه وهو عز وجل حاضر ناظر لهم بخلاف المؤمنين فالحجاب مجاز عن عدم الرؤية لأن المحجوب لا يرى ما حجب أو الحجب المنع والكلام على حذف مضاف أي عن رؤية ربهم لممنوعون فلا يرونه سبحانه واحتج بالآية مالك على رؤية المؤمنين له تعالى من جهة دليل الخطاب وإلا فلو حجب الكل لما أغنى هذا التخصيص وقال الشافعي لما حجب سبحانه قوماً بالسخط دل على أن قوماً يرونه بالرضا وقال أنس بن مالك لما حجب عز وجل أعداءه سبحانه فلم يروه تجلى جل شأنه لأوليائه حتى رأوه عز وجل ومن أنكر رؤيته تعالى كالمعتزلة قال إن الكلام تمثيل للاستخفاف بهم وإهانتهم لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للوجهاء المكرمين لديهم ولا يحجب عنهم إلا الأدنياء المهانون عندهم كما قال:
إذا اعتروا باب ذي عبية رجبوا ** والناس من بين مرجوب ومحجوب

أو هو بتقدير مضاف أي عن رحمة ربهم مثلاً لمحجوبون وعن ابن عباس وقتادة ومجاهد تقدير ذلك وعن ابن كيسان تقدير الكرامة لكنهم أرادوا عموم المقدر لرؤية وغيرها من ألطافه تعالى والجار والمجرور متعلق بمحجوبون وهو العامل في {يومئذ} والتنوين فيه تنوين عوض والمعوض عنه هنا {يقوم الناس} [المطففين: 6] السابق كأنه قيل إنهم لمحجوبون عن ربهم يوم إذ يقوم الناس لرب العالمين.
{ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الجحيم} مقاسو حرها على ما قال الخليل وقيل داخلون فيها وثم قيل لتراخي الرتبة لكن بناء على ما عندهم فإن صلى الجحيم عندهم أشد من حجابهم عن ربهم عز وجل وأما عند المؤمنين لاسيما الوالهين به سبحانه منهم فإن الحجاب عذاب لا يدانيه عذاب.
{ثُمَّ يُقال} لهم تقريعاً وتوبيخاً من جهة الخزنة أو أهل الجنة {هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ} فذوقوا عذابه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{كَلَّا إِنَّ كتاب الْفُجَّارِ لَفِي سجين (7)}
إبطال وردع لما تضمنته جملة: {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون} [المطففين: 4] من التعجيب من فعلهم التطفيف، والمعنى: كلا بل هم مبعوثون لذلك اليوم العظيم ولتلقي قضاء رب العالمين فهي جواب عما تقدم.
{كَلاَّ إِنَّ كتاب الفجار لَفِى سجين وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سجين كتاب}.
استئناف ابتدائي بمناسبة ذكر يوم القيامة.
وهو تعريض بالتهديد للمطففين بأن يكون عملهم موجِباً كتْبه في كتاب الفجار.
و{الفجار} غلب على المشركين ومن عسى أن يكون متلبساً بالتطفيف بعد سماع النهي عنه من المسلمين الذي ربما كان بعضهم يفعله في الجاهلية.
والتعريف في {الفجار} للجنس مراد به الاستغراق، أي جميع المشركين فيعم المطففين وغير المطففين، فوصف الفجار هنا نظير ما في قوله: {أولئك هم الكفرة الفجرة} [عبس: 42].
وشمول عموم الفجار لجميع المشركين المطففين منهم وغير المطففين يُعنى به أن المطففين منهم المقصود الأول من هذا العموم، لأن ذكر هذا الوصف والوعيد عليه عقب كلمة الردع عن أعمال المطففين قرينة على أن الوعيد موجّه إليهم.
و(الكتاب) المكتوبُ، أي الصحيفة وهو هنا يحتمل شيئاً تحصى فيه الأعمال، ويحتمل أن يكون كناية عن إحصاء أعمالهم وتوقيفهم عليها، وكذلك يَجري على الوجهين قوله: {كتاب مرقوم} وتقدمت نظائره غير مرة.
و{سجين} حروف مادته من حروف العربية، وصيغته من الصيغ العربية، فهو لفظ عربي، ومن زعم أنه معرّب فقد أغرب.
روي عن الأصمعي: أن العرب استعملوا {سجين} عوضاً عن سلْتِين، وسلتين كلمة غير عربية.
ونون {سجين} أصلية وليست مبدلة عن اللام، وقد اختلف في معناه على أقوال أشهرها وأولاها أنه عَلَم لواد في جهنم، صيغ بزنة فِعِّيل من مادة السجن للمبالغة مثل: الملك الضِّليل، ورجل سِكّير، وطعام حِرّيف (شديد الحرافة وهي لذع اللسان) سمي ذلك المكان سجيناً لأنه أشدّ الحَبْس لمن فيه فلا يفارقه وهذا الاسم من مصطلحات القرآن لا يعرف في كلام العرب من قبل ولكن مادته وصيغته موضوعتان في العربية وضعاً نوعيا. وقد سمع العرب هذا الاسم ولم يطعنوا في عربيته.
ومحمل قوله: {لفي سجين} إن كان على ظاهر الظرفية كان المعنى أن كتب أعمال الفجار مودعة في مكان اسمه {سجين} أو وصفه {سجين} وذلك يؤذن بتحقيره، أي تحقير ما احتوى عليه من أعمالهم المكتوبة فيه، وعلى هذا حمله كثير من المتقدمين، وروى الطبري بسنده حديثاً مرفوعاً يؤيد ذلك لكنه حديث منكر لاشتمال سنده على مجاهيل.
وإن حُملت الظرفيةُ في قوله: {لفي سجين} على غير ظاهرها، فجَعْل {كتاب الفجّار} مظروفاً في {سجين} مجاز عن جعل الأعمال المحصاة فيه في سجين، وذلك كناية رمزية عن كون الفجار في سجين.
وجملة {وما أدراك ما سجين} معترضة بين جملة: {إن كتاب الفجار لفي سجين} وجملة {كتاب مرقوم} وهو تهويل لأمر السجين تهويل تفظيع لحال الواقعين فيه وتقدم {ما أدراك} في سورة الانفطار (17).
وقوله: {كتاب مرقوم} خبر عن ضمير محذوف يعود إلى {كتاب الفجار} والتقدير هو أي كتاب الفجار كتاب مرقوم، وهذا من حذف المسند إليه الذي اتُّبع في حذفه استعمالُ العرب إذا تحدثوا عن شيء ثم أرادوا الإخبار عنه بخبر جديد.
والمرقوم: المكتوب كتابةً بينة تشبه الرقم في الثوب المنسوج.
وهذا الوصف يفيد تأكيد ما يفيده لفظ {كتاب} سواء كان اللفظ حقيقة أو مجازاً.
{وَيْلٌ يومئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيوم الدِّينِ (11)}
جملة: {ويل يومئذٍ للمكذبين} يجوز أن تكون مبينة لمضموم جملة: {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم} [المطففين: 4، 5] فإن قوله: {يومئذ} يفيد تنوينُه جملة محذوفة جعل التنوين عوضاً عنها تقديرها: يوم إذ يقوم الناس لرب العالمين ويل فيه للمكذبين.
ويجوز أن تكون ابتدائيّة وبَيْن المكذبين بيوم الدين والمطففين عموم وخصوص وجهي فمن المكذبين من هم مطففون ومن المطففين مسلمون وأهل كتاب لا يكذبون بيوم الدين، فتكون هذه الجملة إدماجاً لتهديد المشركين المكذبين بيوم الدين وإن لم يكونوا من المطففين.
وقد ذُكر المكذبون مجملاً في قوله: {للمكذبين} ثم أعيد مفصلاً ببيان متعلق التكذيب، وهو {بيوم الدين} لزيادة تقرير تكذيبهم أذهان السامعين منهم ومن غيرهم من المسلمين وأهل الكتاب، فالصفة هنا للتهديد وتحذير المطففين المسلمين من أن يستخفوا بالتطفيف فيكونوا بمنزلة المكذبين بالجزاء عليه.
ومعنى التكذيب ب {يوم الدين} التكذيب بوقوعه.
فالتكذيب بيوم الجزاء هو منشأ الإقدام على السيئات والجرائم، ولذلك أعقبه بقوله: {وما يكذب به إلا كل معتدٍ أثيم إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} أي أن تكذيبهم به جهل بحكمة الله تعالى في خلق الناس وتكليفهم إذ الحكمة من خلق الناس تقتضي تحسين أعمالهم وحفظ نظامهم.
فلذلك جاءتهم الشرائع آمرة بالصلاح وناهية عن الفساد.
ورتب لهم الجزاء على أعمالهم الصالحة بالثواب والكرامة، وعلى أعمالهم السيئة بالعذاب والإهانة.
كل على حسب عمله: فلو أهمل الخالق تقويم مخلوقاته وأهمل جزاء الصالحين والمفسدين، لم يكن ذلك من حكمة الخلق قال تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى اللَّه الملك الحق} [المؤمنون: 115، 116].
وقد ذكر للمكذبين بيوم الدين ثلاثة أوصاف وهي: معتد، أثيم، يقول إن الآيات أساطير الأولين.
والاعتداء: الظلم، والمعتدي: المشرك والكافر بما جاءه من الشرائع لأنهم اعتدوا على الله بالإشراك، وعلى رسله بالتكذيب، واعتدوا على دلائل الحق فلم ينظروا فيها أو لم يعملوا بها.
والأثيم: مبالغة في الآثِم، أي كثير الإثم.
وصيغة القصر من النفي والاستثناء تفيد قصر صفة التكذيب بيوم الدين على المعتدين الآثمين الزاعمين القرآن أساطير الأولين.
فهو قصر صفة على موصوف وهو قصر حقيقي لأن يوم الدين لا يكذب به إلا غير المتدينين المشركون والوثنيون وأضرابهم ممن جمع الأوصاف الثلاثة، وأعظمها التكذيب بالقرآن فإن أهل الكتاب والصابئة لا يكذبون بيوم الدين، وكثير من أهل الشرك لا يكذبون بيوم الدين مثل أصحاب ديانة القبط.
فالذين يكذبون بيوم الدين هم مشركو العرب ومن شابههم مثل الدّهريين فإنهم تحققت فيهم الصفتان الأولى والثانية وهي الاعتداء والإثم وهو ظاهر، وأما زعم القرآن أساطيرَ الأولين فهو مقالة المشركين من العرب وهم المقصود ابتداء وأما غيرهم ممن لم يؤثر عنهم هذا القول فهم متهيئون لأن يقولوه، أو يقولوا ما يساويه أو يَؤُول إليه، لأن من لم يعرض عليهم القرآن منهم لو عرض عليه القرآن لكذَّب به تكذيباً يساوي اعتقاد أنه من وضع البشر، فهؤلاء وإن لم يقولوا القرآن أساطير الأولين فظنهم في القرآن يساوي ظن المشركين فنزلوا منزلة من يقوله.
ولك أن تجعل القصر ادعائياً ولا تلتفت إلى تنزيل من لم يقل ذلك في القرآن.
ومعنى الادعاء أن من لم يُؤثَر عنهم القول في القرآن بأنه أساطير الأولين قد جعل تكذيبهم بيوم الدين كَلا تكذيببٍ مبالغة في إبطال تكذيب المشركين بيوم الدين.
وجملة: {إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} صفة لـ: {معتد} أو حال منه.
والآيات هنا القرآن وأجزاؤه لأنّها التي تُتْلَى وتُقرأ.
والأساطير: جمع أسطورة وهي القصة، والأكثر أن يراد القصة المخترعة التي لم تقع وكان المشركون ينظرون قِصص القرآن بقصة رُستم، وإسفنديار، عند الفرس، ولعل الكلمة معربة عن الرومية، وتقدم الكلام عليه عند قوله تعالى: {يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين} في سورة الأنعام (25).
والمراد بالأولين الأمم السابقة لأن الأول يطلق على السابق على وجه التشبيه بأنه أول بالنسبة إلى ثان بعده وإن كان هو قد سبقتْه أجيال، وقد كان المشركون يصفون القرآن بذلك لِمَا سمعوا فيه من القصص التي سيقت إليهم مساق الموعظة والاعتبار، فحسبوها من قصص الأسمار.
واقتصروا على ذلك دون ما في أكثر القرآن من الحقائق العالية والحكمة، بهتاناً منهم.
وممن كانوا يقولون ذلك النضر بن الحارث وكان قد كتب قصة رستم وقصة إسفنديار وجدها في الحِيرَة فكان يحدث بها في مكة ويقول: أنا أحسن حديثاً من محمد فإنما يحدثكم بأساطير الأولين.
وليس المراد في الآية خصوصه لأن كلمة {كل معتد} ظاهر في عدم التخصيص.
{كَلَّا بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)}
اعتراض بالردع وبيان له، لأن {كلاّ} ردع لقولهم أساطير الأولين، أي أن قولهم باطل.
وحرف {بل} للإِبطال تأكيداً لمضمون {كلاّ} وبياناً وكشفاً لما حملهم على أن يقولوا في القرآن ما قالوا وأنه ما أعمى بصائرَهم من الرّيْن.
والرّين: الصدأ الذي يعلو حديدَ السيف والمِرآةِ، ويقال في مصدر الرَّين الرانُ مثل العيب والعَاب، والذيْم والذام.
وأصل فعله أن يسند إلى الشيء الذي أصابه الريْن، فيقال: ران السيف وران الثوب، إذا أصابه الريْن، أي صار ذا رين، ولما فيه من معنى التغطئة أطلق على التغطية فجاء منه فعل ران بمعنى غشي، فقالوا: ران النعاس على فلان، ورانت الخمر، وكذلك قوله تعالى: {ران على قلوبهم} هو من باب رَان الرينُ على السيف، وليس من باب رانَ السيفُ، ومن استعمال القرآن هذا الفعل صار الناس يقولون: رِين على قلب فلان وفلان مَرينٌ على قلبه.
والمعنى: غَطَّت على قلوبهم أعمالهم أن يدخلها فهمُ القرآن والبونِ الشاسِع بينه وبين أساطير الأولين.
وقرأ الجمهور بإدغام اللام في الراء بعد قلبها راء لتقارب مخرجيها.
وقرأه عاصم بالوقف على لام {بل} والابتداء بكلمة {ران} تجنباً للإدغام.
وقرأه حفص بسكتة خفيفة على لام {بل} ليبين أنها لام.
قال في (اللسان): إظهار اللام لغة لأهل الحجاز.
قال سيبويه: هما حسنان، وقال الزجاج: الإِدغام أرجح.
والقلوب: العقول ومَحالُّ الإِدراك.
وهذا كقوله تعالى: {ختم اللَّه على قلوبهم} في سورة البقرة (7).
ومن كلام رعاة الأعراب يخاطبون إبلهم في زمن شدة البرد إذا أوردوها الماءَ فاشمأزت منه لبرده بَرِّديهِ تَجديه سَخيناً أي بَلْ رديه وذلك من المُلَح الشبيهة بالمعاياة إذ في ظاهره طلب تبريده وأنه بالتبريد يوجد سخيناً.
و{ما كانوا يكسبون} ما عملوه سالفاً من سيئات أعمالهم وجماحهم عن التدبر في الآيات حتى صار الإعراض والعناد خُلُقاً متأصلاً فيهم فلا تفهم عقولهم دلالة الأدلة على مدلولاتها.
روى الترمذي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكتت في قلبه نُكتة سوداء فإذا هو نزع واستغفر الله وتاب صُقِلَ قلبه فإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه وهو الران الذي ذكر الله في كتابه: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}» قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
ومجيء {يكسبون} بصيغة المضارع دون الماضي لإفادة تكرر ذلك الكسب وتعدده في الماضي.
وفي ذكر فعل {كانوا} دون أن يقال: ما يكسبون، إشارة إلى أن المراد: ما كسبوه في أعمارهم من الإشراك قبل مجيء الإسلام فإنهم وإن لم يَكونوا مناط تكليف أيامئذ.
فهم مخالفون لما جاءت به الشرائع السالفة وتواتر وشاع في الأمم من الدعوة إلى توحيد الله بالإلهية على قول الأشعري وأهل السنة في توجيه مؤاخذة أهل الفترة بذنب الإشراك بالله حسبما اقتضته الأدلة من الكتاب والسنة أو مخالفون لمقتضى دلالة العقل الواضحة على قول الماتريدي والمعتزلة ولحق بذلك ما اكتسبوه من وقت مجيء الإسلام إلى أن نزلت هذه السورة فهي مدة ليست بالقصيرة.
و{كلاّ} الثانية تأكيد لـ: {كلا} الأولى زيادة في الردع ليصير توبيخاً.
{كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يومئِذٍ} {لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الجحيم ثُمَّ يُقال هذا الذي كُنتُمْ بِهِ}.
جملة: {إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون} وما عطف عليها ابتدائية وقد اشتملت الجملة ومعطوفاها على أنواع ثلاثة من الويل وهي الإهانة، والعذاب، والتقريع مع التأييس من الخلاص من العذاب.
فأما الإهانة فحجْبُهم عن ربهم، والحجب هو الستر، ويستعمل في المنع من الحضور لدى الملك ولدى سيد القوم، قال الشاعر الذي لم يسمّ وهو من شواهد (الكشاف):
إذا اعتروا باب ذي عُبِّيَّه رجِبوا ** والناسُ من بين مَرجوب ومَحْجوب

وكلا المعنىين مراد هنا لأن المكذبين بيوم الدين لا يرون الله يوم القيامة حين يراه أهل الإيمان.
ويوضح هذا المعنى قوله في حكاية أحوال الأبرار: {على الأرائك ينظرون} [المطففين: 23] وكذلك أيضاً لا يدخلون حضرة القدس قال تعالى: {إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء} [الأعراف: 40]، وليكون الكلام مفيداً للمعنيين قيل: {عن ربهم لمحجوبون} دون أن يقال: عن رؤية ربهم، أو عن وجه ربهم كما قال في آية آل عمران (77): {ولا ينظر إليهم يوم القيامة}.
وأما العذاب فهو ما في قوله: {ثم إنهم لصالوا الجحيم}.
وقد عطفت جملته بحرف {ثم} الدالة في عطفها الجُملَ على التراخي الرتبي وهو ارتقاء في الوعيد لأنه وعيد بأنهم من أهل النار وذلك أشد من خزي الإهانة.
و(صالوا) جمع صال وهو الذي مسه حر النار، وتقدم في آخر سورة الانفطار.
والمعنى: أنهم سيصلون عذاب جهنم.
وأما التقريع مع التأييس من التخفيف فهو مضمون جملة: {ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون} فعطف الجملة بحرف {ثم} اقتضى تراخي مضمون الجملة على مضمون التي قبلها، أي بُعد درجته في الغرض المسوق له الكلام.
واقتضى اسم الإِشارة أنهم صاروا إلى العذاب، والإِخبار عن العذاب بأنه الذي كانوا به يكذبون يفيد أنه العذاب الذي تكرر وعيدهم به وهم يكذّبونه، وذلك هو الخلود وهو درجة أشد في الوعيد، وبذلك كان مضمون الجملة أرقى رتبة في الغرض من مضمون الجملة المعطوفة هي عليها.
أو يكون قوله: {ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون} إشارة إلى جواب مالك خازن جهنم المذكور في قوله تعالى: {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون} [الزخرف: 77، 78] فطوي سؤالهم واقتصر على جواب مالك خازن جهنم اعتماداً على قرينة عطف جملة هذا المقال بـ: {ثم} الدالة على التراخي.
وبني فعل {يقال} للمجهول لعدم تعلق الغرض بمعرفة القائل والمقصد هو القول. وجيء باسم الموصول ليذكروا تكذيبهم به في الدنيا تنديماً لهم وتحزيناً.
وتقديم {به} على {تكذبون} للاهتمام بمعاد الضمير مع الرعاية على الفاصلة والباء لتعدية فعل {تكذبون} إلى تفرقة بين تعديته إلى الشخص الكاذب فيعدّى بنفسه وبين تعديته إلى الخبر المكذَّب فيعدّى بالباء.
ولعل أصلها باء السببية والمفعول محذوف، أي كذب بسببه من أخبره به، ولذلك قدره بعض المفسرين: هذا الذي كنتم به تكذبون رسل الله في الدنيا. اهـ.